تتصل سوزان بآدم، وقد أعدت له السمك المشوي على العشاء، لم أفكر كثيراً حينها بالمعاني الكامنة وراء ذلك، لكنني وقفت ومعي شيءٌ من الغضب تجاه آدم ونظرته الدونية تجاه زوجته، استحضرت في ذهني لوماً كبيراً للكاتب لأنه روى على لسان بطل الرواية كلاماً مهيناً للمرأة، ثم أجلت الموضوع، وجيدٌ أنني أجلته !
يبدو آدم في البداية شخصاً طموحاً، يحب التفوق والتميز، ولا يتوقف عند أي حدود، لكن بعض الحدود كانت ضرورية إلى حد ما ... ربما !
على الجانب الآخر، بدأ الاستعداد لرحلة المريخ، بدأ ذلك النقاش الذي يأخذ العقل لآفاق ثقافية واسعة تستحق أكثر من مجرد مدح وثناء ... ما أثار في عقلي ذلك الجدال ما إن كان هناك حيادية مطلقة على هذا الكوكب الذي يعبث فيه الإنسان ! الحيادية كذبةٌ ربما، لأننا في الوقت الذي نلغي فيه الاعتبارات العرقية والدينية وغيرها، فإننا بالوقت نفسه نؤسس اختيارنا بناءً عليها بشكلٍ أو بآخر، نهرب منها، إليها !!!
حينما غرقت في الرواية، شعرتُ أنني أتعرف على نوعٍ جديدٍ من العالم، لم أكن أعلم كيف لشخصٍ أن يؤذي شخصاً آخر، إلا حينما رأيت نظرات آدم تمتلئ حسداً تجاه بطن سكرتيرته الحامل، عرفت حينها تلك العلاقة المتصادمة بين الطموح وبين القناعة والرضى، التي قد ترتقي بالشخص إن توازنت، وقد تحوله إلى ماكينة للطمع والحقد والفوقية، أو ترميه بعيداً بلا أي طموح أو رغبةٍ بالحياة، أو تغرس في قلبه تلك النظرة الدونية التي تحقد على كل العالم المتفوق عليها، فتقدسه حيناً، وتؤذيه حيناً آخر !
في ذلك الكوكب، بدا العالم مختلفاً، بدا الشر واضحاً غير مغلفٍ كما يحدث في الأرض ... الشر في آدم دفعه لارتكاب الموبقات كلها، راكضاً خلف رغباته، رامياً بآدميته وإنسانيته عرض الحائط ...
في لحظةٍ ما، حينما عرف آدم أن اختراعاته دمرت الأرض، وأن مسؤولية إنجاب بشرية جديدة ملقى على عاتقه، شعرت بالدنيا كلها تدور في رأسي وتسبب لي الصداع ...
بذرة الشر التي تنبت في البشر، لا يمكن لها أن تنجب خيراً ... وإذا قُدِّر للبشر الانتقال لكوكب آخر وعمارته من جديد، لن يكون وضعه بأفضل حالاً من الأرض ...
الشر الذي بدأ بجريمة قتل منذ بدء البشرية سيعيد نفسه يوماً ما، بشكلٍ أو بآخر، تدفعه كل الشهوات نحو القاع، ليرتكب أشكالاً من الجرائم لم تعرفها البشرية السابقة ...
نظرة الأنا التي دفعت آدم لتدمير الأرض ومراقبتها عن بعد، وكأنها ملك له، كانت خللاً نفسياً كبيراً أوصله لهذه المرحلة من الشر ... لقد اعتقد أن بإمكانه أن يكون أباً للبشر، فقط حينما يلغي باقي البشر !
المفارقة الخطيرة، أنه كان عقيماً ... هنا يتوقف الخيال في دهشة تجاه كم الفلسفة والأفكار العميقة ضمن الرواية .....
في النهاية، عرفت كيف يمكن للشر أن يتمادى في البشر، عرفت لماذا قامت كل الحروب على وجه الأرض، ولماذا كل الشر هذا موجود على سطح الكوكب ...
كرهت آدم، ...، وشعرت بالحزن تجاه سوزان ... أعتقد أن حظها كان سيئاً مع ذلك الرجل ... وارتاح ضميري حينما رأيت آدم بهذا السوء، فهو ليس البطل الذي تُقدَّس أقواله، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بنظرته تجاه زوجته أنها النصف أو الصفر في كل شيء ! ...
Sunday, April 9, 2017
رحلتي إلى المريخ !
Thursday, March 16, 2017
صداقة في ستين دقيقة !
يوم الخميس في الصيدلية، يعني عادةً جهداً إضافياً، لأنه يوم عطلةٍ نصف شهرية، أي أن نصف الصيدليات تعطل في كل خميس، ونصفها الآخر تعطل في الخميس الذي يليه، ولذلك نادراً ما تشعر بالملل في يوم الخميس الذي يكسر إلى حدٍ ما شيئاً من الروتين الأسبوعي ...
لمحت من بين الزبائن شابةً تبدو أصغر مني في العمر، ولما حان دورها، ارتبكت وبدا على وجهها الخجل، تساءلت في نفسي عن سبب ارتباكها، ثم بررتُه بسؤالها عن أحد الأدوية المقطوعة، ربما شعرت بالخجل لأنها تصر على دواءٍ بعينه دون بديله وتتوقع ألا تجده ! ... ربما ... لم أُعرِ الأمر اهتماماً وأعطيتها من هذا الدواء، وتابعتُ تلبية طلباتها ...
حدسي تجاه الأشخاص دفعني إلى مساعدتها، وإعطائها ما تريد، مع أن أغلب طلباتها كانت من "المقاطيع" كما نسميها؛ أدويةٌ تأتينا بشكلٍ مقنن (قطعتان مع كل طلبية أسبوعية أو قطعة واحدة) ... هذه الأدوية نبقيها جانباً للمرضى الذين يحملون وصفاتٍ طبيةً بها، لأنه في ميزان المصلحة العامة عليك أن توفر الدواء المقطوع لمن هو في حاجةٍ أكبر إليه من غيره ... والطبيب في هذه الحالة هو الأعلم بحالة المريض أكثر من وصفات جارتنا وابنة حمانا التي لا يتحسن ابنها إلا على هذا الدواء بعينه دون بديله ! ...... المهم
التفت إلى تلك الشابة، أعطيتها الأدوية وحسبت سعرها، فابتسمت وبدت الشجاعة في عينيها ثم قالت في حياءٍ وسعادة:
هل أنت بتول حمصي؟
نعم .. هل تعرفينني؟
أنا صديقتك على الفيس بوك
اه، ما اسمك؟
Sobriety Clear
فكرت قليلاً ثم تذكرت، طلب صداقة جاءني منذ فترة، لا أعرفها، لكنني وجدت Aseel Saiof صديقاً مشتركاً فانشرح قلبي وقبلتها ...
ألستِ صديقة أسيل؟
بلى
أهلاً بك وبأسيل، تشرفتُ بك
اسمها رزان، وأختها التوأم بيان، يتشاركان الحساب نفسه، ويتابعان رسوماتي ...
كانت رزان سعيدةً جداً، وكأنها تحمل في داخلها شيئاً من أحلامي القديمة بالتقائي بأشخاصٍ ما في مكانٍ ما يوماً ما ... وكان حدسها قد صدق ذلك الصباح بأنها قد تلتقيني في جولتها ما بين الصيدليات ..
الحقيقة، لقد خانني التعبير في تلك اللحظة، لم أجد سوى تلك الكلمات التي يقولها الجميع عند تعارفهم ! بينما كان مافي داخلي يحمل فيضاً من المشاعر لا حدود له ..
لم أستطع إكمال حديثي مع رزان، لكثرة العمل، فأدخلتها لعندي، ووقفت أحاول التركيز مع كل الأشخاص بالوقت نفسه ! ازدحامٌ اعتدت عليه، يوصل دماغي لمرحلةٍ من التحفيز الأقصى، ثم يتراجع بهدوء ...
لحظات، وبدأت رزان تركض معي تساعدني .. تذكرت حينها تلك المرة الأولى التي دخلت فيها هذه الصيدلية كمتدربة، لم أكن أعرف، لكني وجدت نفسي أركض لأساعد الصيدلانية هناك وسط فوضى المكان وفوضى الزبائن ... !!
عاد الهدوء، فصرت أضحك، أخبرت رزان أنه لا يوجد أحد يأتي ليزور هذه الصيدلية، إلا ويكون من نصيبه عملٌ ما ! تسعير أو ضب طلبية أو ترتيب أو بيع سيتامول ولواصق طبية أو حتى مسح الصيدلية ! كانت حقيقة مضحكة، اندمجنا فيها وكأننا صديقتان منذ زمن طويل .. نعمل معاً ونضحك معاً ...
مضى الوقت سريعاً، لم أُرد أن ينتهي، أريدها أن تبقى، أن تأتي كل يوم ... لقد أحببتها حقاً ... وأنتظر أن ألتقي توأمها بيان، وأتوقع أني سأحبها كثيراً أيضاً ...
كانت رزان سعيدة، لكنني كنت أنا الأشد سعادة والأكثر خجلاً في ذلك الموقف ... لقد أحببت خلال حياتي أن ألتقي بكثير من الأشخاص الرائعين .. لكن خاطراً لم يأتِ ببالي من قبل أن أحداً من غير دائرة صديقاتي سيحب أن يلتقي بي ... أمرٌ يدعو للخجل جداً ...
أنت لا تدري كيف تبدو تلك الصورة التي يرسمها الكتاب الأزرق عنك ... لكنه أمرٌ يضع أمامك كثيراً من المسؤولية، كثيراً من الحسابات الدقيقة، وسؤالاً داخلياً خطيراً حول سلامة نيتك في كل ذلك ...
في الوقت ذاته، لقاؤك مع أشخاصٍ ترتاح إليهم، ذلك الانشراح الكبير الذي تشعر به، تلك الملامح الطيبة في وجوههم التي تدعوك لمبادلتهم المساعدة مع مزيدٍ من المحبة ...
لم أكن أصدّق أن هناك صداقةً ومحبةً بهذه المتانة يمكن أن تنشأ من زيارةٍ لم تتجاوز الستين دقيقة ! العالم تغير حقاً، الدنيا بخير، الأشخاص الرائعون لا يزالون يسعون في هذه الحياة، وستحب أحدهم حقاً من أول نظرة !
Friday, February 17, 2017
رحلة بين سطور رواية .. أنا أعرف من قتلني
أشعر بحنان زوجة الطبيب، وهي تساعده في التأنق، وأكاد أرى يدها تربت على معطفه الأسود وهو يخرج، وقلبها معلق بين الأزرار على صدره، تكتم بداخلها شوقاً وحباً، تقفل على قلبها الحزن جيداً، وتبتسم لتعطيه الثقة التي يحتاجها طاقةً في عمله المتعب المرتقب ...
يحتاج العمل أحياناً موهبةً فريدةً في التحكم بالمشاعر وإعمال العقل في أشد اللحظات تأثراً ... لأن موقفاً ما قد يضعك أمام أعز أصدقائك، محققاً في جريمة قتله، وطبيباً لجثته التي لن تشاركك الضحك في سهرة هذه الليلة الموحشة ...
كان القاضي يعيش حياةً فخمةً ضخمة في مثل هذا المنزل، لكن النور الحقيقي في حياته يكاد يكون كأعقاب السجائر التي يلتهمها، تتوهج لثوانٍ قليلة، ثم يكون الرماد مصيرها ..
الكتاب الذهبي على طاولة مكتبه، كان أمراً ملفتاً للنظر، لوهلةٍ أثناء مروري بقربه، خيل إلي أنه نفسه مذكرات القاضي التي أقرؤها، في كتاب ضمن كتاب، كحلمٍ داخل حلم ... لم أعرِ الأمر اهتماماً، لكن حدسي القديم بدا صائباً بعد ذلك !
"أنا أعرف من قتلني" .. لماذا تطبع بخط يد؟ ... فكرت كثيراً، ولاهتمامي بمجال الخط أكاد أتلمس بين حروفها شيئاً مخبئاً، سراً وروحاً ورسائل لا يمكن لخط Arial الشهير ولا أشباهه الجامدة أن يوصلوها ...
تسجيلٌ ورسالةٌ من صديقٍ قتيل، تضعك بشكل مباشر أمام مسؤولية تحقيق العدالة، التي طالما كانت هاجسكما في مسيرتكما المهنية المتكاملة ...
في تلك الكلمات القليلة التي سجلها القاضي، تشعر بأن حدقتي عينيه كالثقب الأسود عمقاً، بأن نظرته الثاقبة وخبرته في البشر، أعمق من أن يتصورها أحد، حتى أصدقاؤه المقربون ... ! تفكر كم هو خطير ذاك الشيء المسمى بالحاسة السادسة، أو الحدس، وخصوصاً حينما يتعلق بالحوادث المأساوية، كالقتل مثلاً !
Thursday, February 9, 2017
حامل ! ولكن ...
تركتُ سماعةَ الهاتف وركضتُ إلى الداخل، فوجدت شابة نحيلةً جداً تجلسُ على أرض الصيدلية شاحبةً جداً (بلون الكهرباء كما يقولون)، وأمُّها تستنجد: ابنتي .. لم تعد قادرةً على الاحتمال ! أعطها إبرة ...
حاولتُ أن أتمالك أعصابي في تلك اللحظة، أن أغلق على قلبي نبضاته، وأٌعمل عقلي بأقصى طاقته، لإسعاف هذه الحالة دون تأثرٍ نفسي ... هذا الأمر متعبٌ لي للغاية، لكنه أحد واجبات كل من يدخل ضمن السلك الطبي، أن يتصرف ! To take action ...
فكرت ... إنها تشعر بألم شديدٍ وتشعر بالغثيان .. ماذا أعطيها؟ ... دكلون .. لكن معدتها فارغة وقد تكون حساسة ... ماذا عن الحساسية تجاه الدكلون؟ قد لا تكون الأم بحالة عقلية جيدة لتجيبني على هذا الموضوع بدقة ... حالات التحسس من الدكلون قليلة، لكنها قد تكون ببعض حالاتها مميتة لا سمح الله ! ليس علي المخاطرة ...
أعطيتها دواءً للغثيان، تأخذه، حتى إذا ارتاحت تتناول شيئاً من الطعام لتأخذ مسكناً قوياً ... وطلبت من الأم أن تأخذ ابنتها الشابة إلى المشفى مالم تشعر بتحسنها ...
خرجت الأم وابنتُها تستند إليها، وبقيت أفكر بهذه الشابة، ما بها؟ ... ما سبب كل ذلك؟ ... وعدت لأكمل عملي ... آه .. صحيح .. الهاتف!
عادت الأم بعد نصف ساعة، لتطمئنني على ابنتها، فقد أعادتها للبيت ويبدو أنها تحسنت ... فسألتها: ما سبب ذلك؟ هل هي المرة الأولى؟ ... فأجابت: لقد كانت تتوقع أن تكون حاملاً، لكن لم يحدث ذلك ! يبدو أن ذلك من أثر الحزن الشديد ...
- آه ابنتك متزوجة! تبدو صغيرة
- نعم، من ستة أشهر، ولم تحمل حتى الآن! تخيلي
- كم عمرها؟
- تسعة عشر عاماً
- لا تزال صغيرة ! والعمر أمامها طويل ... بعضهن لا يحملن في مثل هذا العمر
- نعم، لقد قلت لها ذلك، لكن، تعرفين ! "بيت الاحما" لا يرحمون ! وحماتها تتذمر لأن ابنتي قد تأخر حملها .. لا أدري ما الذي قد يخطر ببالها لو تأخر أكثر !!
- لكن ! ..... اسمعيني .. من أجل ابنتك، عليها ألا تقلق، وهذا رزقٌ من الله، والحالة النفسية قد تؤثر سلباً على ذلك، ثم ... لا تزال صغيرة ...
- نعم، ولكن ....
كان يبدو أن النقاش بلا فائدة ... لا يمكن لتلك العقد المنتشرة بين الناس أن تُحلّ بكلمتين ...
مرت الشهور، وجاءت الأم تشتري لابنتها اختبار حمل، وعدتني بـ "حلوان" إن كانت حامل ... وفعلاً عادت بـ "الحلوان" ..... فرحتُ لذلك حقاً ...
كانت الأم تأتي كل فترة بالوصفة الطبية التي تطمئنني عن استمرار حمل ابنتها ... أدوية الحامل .. الفيتامينات ... وغيرها ...
لكن الله جل بحكمته لم يأذن لهذا الحمل بأن يتم، فقد مات الجنين بالشهر الثاني، واضطرت لإسقاطه ...
لم تترك الأم بعد ذلك طبيبةً إلا وذهبت إليها .. تريد دواءً لابنتها، تريد أن يجبر خاطر ابنتها بطفل، وجواب الطبيبات نفسه ! ابنتكِ بصحة جيدة، ولا تحتاج أي دواء ... ولكن .. لو لم تحمل، حماتها ...... لا يجب أن تقلق فالقلق قد يؤخر الحمل أكثر ...
- هل هناك حمل؟
- لم يتبين بعد، لكن الطبيبة طلبت منها أن تبدأ بفيتامين الحمل من الآن ...
تلك السعادة التي وجدتها على وجه الأم، انقلبت فجأة إلى تجاعيد حزنٍ وخوف مع الوصفة الطبية التي بعدها ... فقد تعرضت ابنتها لحالة "حمل خارج الرحم" ... حالة خطرة جداً على حياة الأم ... نزفت ابنتها بشدة، وتعرضت لألمٍ لا حدود له، واضطروا للبحث لها عن أكياس دم لإنقاذ حياتها ... ومنعتها الطبيبة من الحمل لستة أشهر قادمة حتى يستعيد جسمها عافيته وقوته ...
شعرتُ بغصةٍ كبيرة ... حزنٍ كبير ...
تقول الابنة للأم: لقد شعرت بألم الولادة مرتين، لكن دون ولد !
وتبادلنا الصمت والحزن ...
لا يمكن لحادثةٍ كهذه أن تمرّ عليك، دون أن تثير بأعماقك كماً من الأفكار والمشاعر لا حدود له ...
شابةٌ صغيرةٌ ضعيفة، تعرضت لكل هذه الآلام وهي لم تتجاوز العشرين ربيعاً ...
مشاعر الأمومة التي تنتظرها، ولم تحصل عليها حتى الآن .....
كم تشتاق لحضن ولدٍ لها، وكم من الأمهات لا يشعرن بهذه النعمة ...
لقطاتٌ متناقضة، مررت بها خلال عامٍ ونصفٍ قضيتها هنا ...
شاهدتُ فيها الأمهات يشترين جهاز اختبار الحمل، يشترين الفيتامينات، يأخذن حقنة "دكسون" قبل الولادة، ثم تبدأ رحلة حليب الأطفال والحفاضات وقطارات "تمبرا"، وصولاً إلى السيريلاك ...
شاهدتُ خطوط سيرٍ أخرى إلى جانبها، أمٌّ تريد شراء دواءٍ للإسقاط، وأخرى تريد دواءً لينام طفلها عشرين ساعة متواصلة ...
شاهدتُ أماً تصفع ابنها ذي السنتين على وجهه بقوة، لأنه يطلب شراء السكاكر!
شاهدتُ أماً تضرب بأظافرها الحادة وجه ابنتها ذات الأربعة أعوام، لأن لديها مرض تبولٍ لا إرادي، معروفٍ أنه يتفاقم بالضرب والحالة النفسية السيئة !!!
صرفت وصفاتٍ طبيةً لأمهاتٍ وآباءٍ يرغبون بطفلٍ يملأ زوايا حياتهم ... أعطيت كثيراً من الحقن التي يصفها الأطباء لتساعد على الحمل، كنت أدعو لهن من قلبي، ولا أدري إن كتب الله لهن الإنجاب، أم أن مسيرة هذه الحقن تستمر ...
شاهدتُ في هذا العالم، كثيراً من الحب، وكثيراً من الكره أيضاً ... شاهدتُ الجهل وشاهدتُ الأمل وشاهدتُ الرضى ...
وشاهدتُ اليوم شابةً ينكسر قلبها، على رزقٍ تأخر عنها، وحاصرتها الضغوط النفسية ممن حولها، لتوصلها لحالةٍ كادت تودي بحياتها ...
أسأل الله الفرج، وجبران الخاطر، والرضى ....
Friday, February 3, 2017
رحلة مع المعاملات !


حاولت أن أبدأ نهاري بإيجابية، قضيت بعض الأمور ثم مررتُ على صديقتي في عملها، قضيتُ معها وقتاً قصيراً جداً لكن فيه من المحبة والطاقة الكثير ! وتابعت رحلتي الطويلة بنشاطٍ رغم كل المفاجآت التي كانت تتوالى وتعيق إتمام عملي ...
أمور غير متوقعة، تأكل من رصيد الوقت، رصيدِك الأهم في مسابقة دوام الموظفين، والسلالم الصاعدة النازلة ...
أثناء انتظاري لبعض الأوراق المتعطلة، وجدت نفسي أمام خيارين .. أن أفسح المجال أمام تدفق هرمون التوتر ليتفاعل مع ذرات قلبي تفاعلاً ناشراً للحرارة، يؤدي إلى حالة تسمى "فوران القلب" غير ذات جدوى ... أو أن أسترخي وأحاول الاستمتاع بالوقت مهما بدى عصيباً ومربكاً ...
كان أمامي دقائقٌ طويلةٌ من الانتظار، بسبب بعض التعقيدات غير المتوقعة، فكرت بطريقةٍ لإمضائها، فقادتني قدماي إلى إحدى الحدائق التي لم يسبق لي دخولها .. بدأت أتجول فيها وأسترخي في خضرتها ... مارست شغفي بالتقاط بعض الصور بالكاميرا، والكثير منها بقلبي ومخيلتي ...
تناولت الطعام مع شقيقي بعد تعبنا غير ذي الجدوى، فشعرنا بالعطش الشديد، وكانت زجاجة الماء قد فرغت في مشوارنا الطويل، خطر ببالي أن يكون في الحديقة صنبور مياه للشرب، بدأت أبحث في الزوايا، فلم أجد، سألت البستانيّ فدخل وأحضر زجاجة ماء كبيرة، وملأ لي زجاجتي الصغيرة ... ملأها حتى "آخر شفة" .. شكرته، وابتسم قلبي للموقف ولما في الحياة من خير .. وكان الماء بارداً عذباً، تقاسمته مع شقيقي، وكان من أعذب ما شربناه على عطشنا الشديد ...
سمعت صوت الأذان يصدح عالياً، فقررت الذهاب للمسجد .. كان باب النساء مقفلاً، بدأت أبحث عن بابٍ آخر مخصص للنساء فلم أجد، سألت إحدى السيدات فصادف أنها أيضاً تقصد المسجد، فدخلنا سوياً من باب الرجال، اخترنا زاويةً في الخلف، وجلسنا ننتظر إقامة الصلاة ...
كان التصميم الداخلي للمسجد غايةً في الروعة والفخامة، وكان شعاع الشمس الذي يمر عبر النوافذ يرسم نقشاً من الألوان آسراً للقلوب ... شعاع الشمس يقترب من الثريا، فينعكس عليها كماسةٍ نفيسةٍ معلقة في السماء ...
كان الرجال في الأمام يدخلون تباعاً، يتجهزون لتلك الوقفة الجماعية بين يدي الله، يدخل أحدهم ببطء والآخر مستعجلاً، يدخل العجوز على عكازته، والصبي راكضاً ... بانتظار موعدٍ روحانيٍ جماعي ... صلينا مع الجماعة، وشعرتُ بقلبي يحلق مع أنها صلاةٌ سريةٌ لا يُقرأ فيها القرآن بصوتٍ عالٍ ... بدأت أتأمل كم مر عليّ من الوقت وأنا لا أستشعر بالصلاة، وجُلُّ اهتمامي هو قضاء الصلاة بوقتها أثناء عملي ومشاغلي اليومية ... أربعُ ركعاتٍ أنهيها بسرعة، لأعود للعمل بسرعة، كم مر علي من الوقت دون أن أشعر بها؟ .....
هممت بالخروج من المسجد، ألقيت السلام على السيدة التي كانت بجانبي، فبادلتني السلام، وأردفت بكلمة "ادعيلنا" .. أجبتها بمثل ذلك ... وراح بالي يجول في آفاقٍ واسعة ... فكرتُ في هذا القدر الذي جمعني مع سيدةٍ لا أعرفها ولا تعرفني، في مسجدٍ لم أدخله من قبل ولا أدري إن كنت سأدخله مرةً أخرى في حياتي، لتجمعَنا صلاةٌ ندعو فيها رباً جمعنا الإيمان به، ونتبادلَ دعاءً بظهر الغيب، ونفترق دون لقاءٍ آخر متوقع في هذه الدنيا ...
كنت أعقد ربطةَ حذائي حينما عادت ذاكرتي خمسةَ عشرَ عاماً، حيث كنا في رحلةٍ مدرسيةٍ، وهممنا بالعودة، فعلمتنا الآنسة أن نقول: (اللهم إني أستودعك في هذا المكان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنا قد رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، فردها إليّ عند حاجتي إليها) ...
إننا نمر بأماكن لا ندري إن كنا سنمر فيها مرة أخرى، فلنترك فيها بصمةً لحياتنا، أثراً سيبقى لنا، ويشفع لنا بإذن الله ...
لم أستطع إكمال عملي بالأوراق، وتعقدت الأمور، وانتهى رصيد الوقت، لكنني في ذلك الوقت، وجدت لنفسي مساحةً أرتاح بها ...
لم أنجز عملاً مهماً، لكني بالمقابل أنجزت استراحةً مهمةً جداً ... ذكرتُ بعض تفاصيلها، واحتفظت بالباقي في قلبي ذكرياتٍ لا تنسى، مع أولئك الذين أحبهم ...
وكأن الأمور تجري بطريقةٍ ما، لم تحسب حسابها، لتفتحَ لك نافذة الحياة والراحة التي طالما غابت عنك، ونسيتَ مع طول الغياب كم أنت بحاجةٍ إليها ... ...
إن لنفسِكَ عليكَ حقاً .. (أيضاً

Saturday, January 21, 2017
ضمير !
"يسعدلي صباحك حبيبتي" ... هذه الجملة مع هذا الصوت، هو آخر شيءٍ أتمناه ومن حولي كل هذا الازدحام في العمل !
إحدى جاراتنا في الصيدلية، لديها عادةٌ تتكرر بمعدل مرةٍ كل أسبوعين، تتصل وتسأل أسئلة تعرف أجوبتها ...
لم يكن من طبعي أن أرد سؤالاً، فقد منحني الله بالاً أطول مما أتوقع أنا نفسي ! فكنت في كل مرة أداريها وأساير حتى أوصل لها المعلومة بأقل عددٍ ممكن من الكلمات وبأسرع وقتٍ ممكن ...
في هذه المرة، كانت تريد أن تقنعني بأن دواء الضغط Lotid ليس كـ Losartic، وبأنها ذهبت إلى الإسعاف بسبب البديل بعد أن قرأت تأثيراته الجانبية ...
أثناء استماعي لحديثها على الهاتف، صرخت إحدى الزبائن عندي: "لماذا تردين على الهاتف؟ ربما كان أحد ما مستعجلاً" ...
كان أسلوبها غايةً في الوقاحة، لكنها محقةٌ إلى حدٍ ما، وفي النهاية لست أخطبوطاً؛ حتى أتمكن من تدبير كل شؤون الصيدلية بعقل واحد ويدين اثنتين ... أجبتها باحترام: لو اتصلتِ بالصيدلية ولم أرد عليكِ، ألن تنزعجي؟ ... "لكنها لا تسأل عن شيءٍ مهم ولن تشتري منك شيئاً!" ... وكيف لي أن أتنبأ بذلك؟! إنه "المندل" ... ربما!
أنهيت مكالمتي سريعاً، وأنا أكظم غيظي لأبعد الحدود، كنت أريد أن أصرخ بوجهها أنني أعرف عملي وليس لها التدخل به! وكنت أيضاً أود لو أن هناك زراً لحظر مكالمات تلك الزبونة بالذات التي تهدر وقتي في كل مرة، بإقناعي أن حقن الدكلون لا تسبب ألماً في المعدة أو ارتفاعاً في الضغط، بينما تسبب حقن الدكلوفيناك - بديلها - ذلك!
يحتاج صيدلاني المجتمع، أن يمتلك مهاراتٍ اجتماعيةً عالية، حلماً وبالاً طويلاً، وشخصيةً غير لئيمةٍ لكنها لا تسكت على تجاوزات المرضى ... الشعرة في هذا المجال رفيعةٌ جداً وعلي الحفاظ عليها ...
التفتُّ إلى تلك الزبونة الوقحة، ومعالم انزعاجي منها لا تختبئ من وجهي الواضح ولا تخفى على أحد ... والغريب في الأمر أن استعجالها تحول فجأةً إلى سيلٍ من الجدال لا ينتهي ... إنها تأتي بالأدوية من المستوصف مجاناً، ومن ثم تناقش لنشتريها منها بحجةٍ أنها أخذت الدواء من عندنا ولم تستعمله، ومن ثم تتابع الجدال لنأخذ الدواء منها بالسعر الذي نبيعه به !
خرجت الزبونة، وتلفت الزبائن إلى بعضهم يتبادلون تلك النظرة الصامتة ... "الله يفرج أحسن شي" ....
لا نستطيع إطلاق الأحكام على الأشخاص من حولنا، فنحن لا نعرف ظروفهم، ولا ندري كيف سنتصرف لو مررنا بظروفٍ مثلها ... نسأل الله العافية والسلامة، ونحاول أن نوفِّق بين ثلاثة ضمائر:
ضميرٍ إنسانيٍّ متعاطفٌ مع الزبون ..
ضميرٍ لا يجب أن يُستَغلَّ أو يُضحك عليه ..
وضميرٍ يريد أداء عمله كموظفٍ على أكمل وجه ...
Friday, January 13, 2017
الرجل الأعمى
أثناء مروري بمحاذاته، لأفتح باب الصيدلية، أوقفني وسألني: أين شارع بغداد؟ بشكل طبيعي أجبته، وأنا أتفكر في حاسة السمع التي ميز من خلالها وقع أقدامي وناداني بـ "أختي" دون أن يراني!
أخرج الرجل لي قصاصة من كرتون سميك، كتب عليها:
<<<دكتور ورد الشام
نواحي شارع بغداد
جمعية ........ (حروف غريبة غير مفهومة!)>>>
بدأ حس التحري يراودني، واستحضرت في ذهني كل الشيفرات التي حلها المحقق كونان، هل هي شيفرة غامضة؟ ما معنى كلمة دكتور ورد الشام؟ ما هي الكلمات الغريبة المكتوبة إلى جانب كلمة جمعية؟ بأي لغة هي؟
لم يكن الرجل يعرف اسم الجمعية التي يريد الذهاب إليها، يسير في الطريق أعمى البصر، نحو وجهةٍ عمياء ... ويبحث في الطريق عمن يجد له هذا العنوان الغريب ...
سألته: هل لديك رقم هاتف أتصل عليه لأسأل لك؟ قال: لا، ولكن سأتصل بزوجتي لتخبرك باسم الجمعية، ربما تعرفها!
لم يفلح بالاتصال لأنه لا يملك رصيداً، وسألني إن كان يستطيع استخدام هاتفي ...
كان قلبي المتعاطف مع الرجل الكبير، يتنازع مع عقلي الذي جعلته خبرته في النفوس الملتوية يتوقع كل شيء سيء! وبدأت أسأل نفسي: ماذا لو لم يكن أعمى وافتعل كل ذلك ليستخدم هاتفاً جوالاً فيسرقه ويركض به؟! لا شيء مؤكد ...
طلبت منه أن ينتظر حتى أفتح باب الصيدلية، ومن ثم يتحدث من الهاتف الأرضي، ثم ساعدته في الدخول ونزول الدرجات الثلاث ... أعطيته الهاتف، فطلب مني الاتصال برقم يحفظه، لكن الرقم كان مغلقاً أو خارج نطاق التغطية !
- لقد نزحت مع عائلتي من القنيطرة الأسبوع الماضي، ولا مكان نأوي إليه، فتعرفت على دكتورة اسمها ورد الشام، وأعطتني عنوان جمعية أذهب إليها لتساعدني، فهي إحدى المتبرعين الدائمين لهذه الجمعية، وعدتني أنهم سيساعدونني لو أريتهم هذه الورقة!
- وما الذي يضمن أنها صادقة؟ ربما كانت تمزح مثلاً! فلا يوجد دكتورة اسمها ورد الشام! ثم لمَ لمْ تُعطك بطاقتها أو ورقةً مرتبةً منها؟ لماذا تكتب لك العنوان على كرتونٍ سميك؟ ولماذا لم توضح خطها في كتابة اسم الجمعية؟
- لقد كنا قرب سوق الخضراوات ولم يكن معها ورقة ...
- لا أدري يا عم ماذا أقول لك، فربما تكون هذه القصة كلها غير صحيحة!
- ما الذي يجعلها تكذب علي؟ لقد أحبت من نفسها أن تساعدني!
دللته على الطريق ليصل إلى شارع بغداد الرئيسي، فمشى في طريقه ممسكاً تلك الورقة، يسأل كل من يمر به، لعله يجد جواباً لشيفرتها!
ذهب وفي عقلي ألف سؤال بلا جواب ... راودني الشك تجاه كل شيء، تجاه كل الناس، وتجاه هذا الأعمى وقصته الغريبة، وقصة نزوحه من القنيطرة التي لم أسمع اسمها في الأخبار من زمنٍ طويل، وسؤالٌ أخير بريء يقول لي: مابالك يا وطني، لا تحبُّ بعضك؟ هل سأثق بك يوماً؟