Pages

Friday, January 13, 2017

الرجل الأعمى

وجدت صباح أمس في طريقي إلى العمل رجلاً أعمى يمشي قرب الصيدلية ... كأول انطباعٍ لي حين رأيته يتلمس الأرض بعصاه، فكرت في مساعدته، لكنني ترددت لما في وعيي من تحذيراتٍ تجاه الغرباء، تمنعني من إعطاء الثقة لأيٍ كان مهما بدا عليه ...
 أثناء مروري بمحاذاته، لأفتح باب الصيدلية، أوقفني وسألني: أين شارع بغداد؟ بشكل طبيعي أجبته، وأنا أتفكر في حاسة السمع التي ميز من خلالها وقع أقدامي وناداني بـ "أختي" دون أن يراني!
أخرج الرجل لي قصاصة من كرتون سميك، كتب عليها:
<<<دكتور ورد الشام
نواحي شارع بغداد
 جمعية ........ (حروف غريبة غير مفهومة!)>>>
سألني أين أجد هذا العنوان، فلم يتضح لي، ودللته على الجمعية الخيرية القريبة من الصيدلية، فأخبرني أنه كان فيها وليست هي ما يريده.
 بدأ حس التحري يراودني، واستحضرت في ذهني كل الشيفرات التي حلها المحقق كونان، هل هي شيفرة غامضة؟ ما معنى كلمة دكتور ورد الشام؟ ما هي الكلمات الغريبة المكتوبة إلى جانب كلمة جمعية؟ بأي لغة هي؟
 لم يكن الرجل يعرف اسم الجمعية التي يريد الذهاب إليها، يسير في الطريق أعمى البصر، نحو وجهةٍ عمياء ... ويبحث في الطريق عمن يجد له هذا العنوان الغريب ...
سألني: ألا يوجد صيدلية هنا؟ ربما تستطيع تفسير هذا الخط، كون التي كتبته دكتورة! ارتبكت للحظة ثم أجبته: أنا صيدلانية! وبدأ دماغي يعمل بأقصى طاقته متذكراً كل شيفرات الأطباء التي فككتها من قبل! لكن دون جدوى ... فعادةً حينما تفسر وصفة طبيب، فإنك تكوِّن في مخيلتك أبجديةً خاصةً بالطبيب، وبناءً عليها تفك الخط، أما هنا فكل الكلمات مفهومة، والخط خط سيدةٍ مرتبٌ إلى حدٍ ما عدا الكلمات الأخيرة، فمحالٌ أن يكون شخصٌ واحد قد كتب كل ذلك إلا متعمداً ألا يقرأه أحد ...
سألني: ألا يوجد في المنطقة دكتورة اسمها ورد الشام؟ إنها هي تريد مساعدتي ... وكان من المحبط له أني لم أسمع بها من قبل ... وبدأت أحادث نفسي .. "ورد الشام" ! هل نحن بين جدران الفيس بوك الزرقاء حتى نبحث عن شخصياتٍ بأسماء كهذه؟
 سألته: هل لديك رقم هاتف أتصل عليه لأسأل لك؟ قال: لا، ولكن سأتصل بزوجتي لتخبرك باسم الجمعية، ربما تعرفها!
أمسك جواله ذا الطراز القديم، وضعه على أذنه، وراح يضغط أزرار الهاتف فيصدر نغماتٍ وفق الأرقام! وبدا لي أن الرجل يتصل بالرقم الذي يريده وفق ذاكرته السماعية لنغمات المفاتيح ... كما يفعل المحقق كونان بإحدى الحلقات ...
لم يفلح بالاتصال لأنه لا يملك رصيداً، وسألني إن كان يستطيع استخدام هاتفي ...
 كان قلبي المتعاطف مع الرجل الكبير، يتنازع مع عقلي الذي جعلته خبرته في النفوس الملتوية يتوقع كل شيء سيء! وبدأت أسأل نفسي: ماذا لو لم يكن أعمى وافتعل كل ذلك ليستخدم هاتفاً جوالاً فيسرقه ويركض به؟! لا شيء مؤكد ...
 طلبت منه أن ينتظر حتى أفتح باب الصيدلية، ومن ثم يتحدث من الهاتف الأرضي، ثم ساعدته في الدخول ونزول الدرجات الثلاث ... أعطيته الهاتف، فطلب مني الاتصال برقم يحفظه، لكن الرقم كان مغلقاً أو خارج نطاق التغطية !
- يا عم ما الذي أستطيع مساعدتك به؟ هل تقصد الجمعية لغرضٍ ما؟ ومن هي الدكتورة ورد الشام؟
 - لقد نزحت مع عائلتي من القنيطرة الأسبوع الماضي، ولا مكان نأوي إليه، فتعرفت على دكتورة اسمها ورد الشام، وأعطتني عنوان جمعية أذهب إليها لتساعدني، فهي إحدى المتبرعين الدائمين لهذه الجمعية، وعدتني أنهم سيساعدونني لو أريتهم هذه الورقة!
 - وما الذي يضمن أنها صادقة؟ ربما كانت تمزح مثلاً! فلا يوجد دكتورة اسمها ورد الشام! ثم لمَ لمْ تُعطك بطاقتها أو ورقةً مرتبةً منها؟ لماذا تكتب لك العنوان على كرتونٍ سميك؟ ولماذا لم توضح خطها في كتابة اسم الجمعية؟
- لقد كنا قرب سوق الخضراوات ولم يكن معها ورقة ...
- لا أدري يا عم ماذا أقول لك، فربما تكون هذه القصة كلها غير صحيحة!
 - ما الذي يجعلها تكذب علي؟ لقد أحبت من نفسها أن تساعدني!
لم أعرف ماذا أجيبه، كيف يمكن لشخصٍ أن يتصرف بهذا الشكل مع شخصٍ مسكينٍ أعمى .. ما الذي كان يفكر به وهو يعطي رجلاً لا يبصر، ورقة فيها عنوانٌ لا وجود له؟!
 دللته على الطريق ليصل إلى شارع بغداد الرئيسي، فمشى في طريقه ممسكاً تلك الورقة، يسأل كل من يمر به، لعله يجد جواباً لشيفرتها!
 ذهب وفي عقلي ألف سؤال بلا جواب ... راودني الشك تجاه كل شيء، تجاه كل الناس، وتجاه هذا الأعمى وقصته الغريبة، وقصة نزوحه من القنيطرة التي لم أسمع اسمها في الأخبار من زمنٍ طويل، وسؤالٌ أخير بريء يقول لي: مابالك يا وطني، لا تحبُّ بعضك؟ هل سأثق بك يوماً؟

No comments:

Post a Comment