Pages

Friday, February 17, 2017

رحلة بين سطور رواية .. أنا أعرف من قتلني

أسمع في أذني صوت رنين الهاتف، تحت الظلام، صعبةٌ هي حياة الطبيب الشرعي، فهي ليس ملكه، عطلته حافلةٌ بالمفاجآت، وليلته الدافئة تجتاحها رياح باردةٌ قادمةٌ من نافذة السيارة المسرعة إلى موقع الجريمة ...
أشعر بحنان زوجة الطبيب، وهي تساعده في التأنق، وأكاد أرى يدها تربت على معطفه الأسود وهو يخرج، وقلبها معلق بين الأزرار على صدره، تكتم بداخلها شوقاً وحباً، تقفل على قلبها الحزن جيداً، وتبتسم لتعطيه الثقة التي يحتاجها طاقةً في عمله المتعب المرتقب ...
يحتاج العمل أحياناً موهبةً فريدةً في التحكم بالمشاعر وإعمال العقل في أشد اللحظات تأثراً ... لأن موقفاً ما قد يضعك أمام أعز أصدقائك، محققاً في جريمة قتله، وطبيباً لجثته التي لن تشاركك الضحك في سهرة هذه الليلة الموحشة ...
دخلت منزل القاضي، وكأنني أسمع صدى صوتي ووقع أقدامي في بهوه الفسيح .. وكأن زوايا المنزل الضخم تحدثني بما لا يمكن إلا الشعور به ! 
في المطبخ الكبير، كانت غصة التفاصيل الموجعة، أحدٌ ما نحبه، قبل دقائق مر من هنا، كان يود تناول البيض المقلي بالزبدة على العشاء ... الشاي الذي هم بتحضيره، لم يعد أنيسه في السهرة، بل أحد الأدلة في مسرح جريمة قتله ...
كان القاضي يعيش حياةً فخمةً ضخمة في مثل هذا المنزل، لكن النور الحقيقي في حياته يكاد يكون كأعقاب السجائر التي يلتهمها، تتوهج لثوانٍ قليلة، ثم يكون الرماد مصيرها ..
الكتاب الذهبي على طاولة مكتبه، كان أمراً ملفتاً للنظر، لوهلةٍ أثناء مروري بقربه، خيل إلي أنه نفسه مذكرات القاضي التي أقرؤها، في كتاب ضمن كتاب، كحلمٍ داخل حلم ... لم أعرِ الأمر اهتماماً، لكن حدسي القديم بدا صائباً بعد ذلك !
"أنا أعرف من قتلني" .. لماذا تطبع بخط يد؟ ... فكرت كثيراً، ولاهتمامي بمجال الخط أكاد أتلمس بين حروفها شيئاً مخبئاً، سراً وروحاً ورسائل لا يمكن لخط Arial الشهير ولا أشباهه الجامدة أن يوصلوها ...
تسجيلٌ ورسالةٌ من صديقٍ قتيل، تضعك بشكل مباشر أمام مسؤولية تحقيق العدالة، التي طالما كانت هاجسكما في مسيرتكما المهنية المتكاملة ...
في تلك الكلمات القليلة التي سجلها القاضي، تشعر بأن حدقتي عينيه كالثقب الأسود عمقاً، بأن نظرته الثاقبة وخبرته في البشر، أعمق من أن يتصورها أحد، حتى أصدقاؤه المقربون ... ! تفكر كم هو خطير ذاك الشيء المسمى بالحاسة السادسة، أو الحدس، وخصوصاً حينما يتعلق بالحوادث المأساوية، كالقتل مثلاً !
كم يبدو هذا العالم غامضاً كغموض ذلك القاضي، الذي ترك ألغازه خلفه، كبصمةٍ تدين عالم الجريمة، الجريمة التي بدأها أحد أولاد آدم يوماً، ولم تنتهِ اليوم ! ولن تنتهي في الغد بالطبع ...
في مذكرات القاضي، عشت الحزن المزمن الذي رافقه، عشت مرضَه الخطير، والأسرار التي خبأها بين خلايا رئتيه المتورمتين ... تجرعتها كتلك السموم التي ينفثها بدخانه، نافخاً بعض هموم الحياة خارجاً، ومستنشقاً للمزيد منها !
بكيت في تلك الليلة الفاجعة، حيث فقد زوجته وأولاده ... وشحبتِ الحياةُ من حولي، فليس من السهل أن تخسر عائلتك، وتبقى وحيداً، سترمى كاليتيم المشرد في الحياة، مهما بلغتَ من العمر والشيب ! ... 
في مذكرات القاضي، شخصيةٌ صلبةٌ، تصدِّعها مآسي الحياة، ينهش بجسدها المرض، ويحترق بداخلها العجز عن تحقيق العدالة التي طالما عمل ليقضي بها في قاعة المحكمة ...
العمود الرخامي، واللوحات الجدارية، والقبة السماوية .. فخامة معمارية، من خلفها أسرارٌ بقيت طي الكتمان، تبحث عن السلطة الأقوى التي تجبر المجرم على الاعتراف بحكم العدالة ... 
يعيث الفساد في غرف القصر، كما يعيث بالكرة الأرضية المتمثلة فيه، حيث تختفي العدالة وتسود نظرة الأقوى نحونا، رشوة وسرقة وعيشة بلا شرف، تنخر بجدران ذلك القصر المتهالك مع الزمن، تستوطن زواياه حتى تنصهر معها، فيهلك بهلاكها ... فالبشر يتحايلون بطرقٍ غير متوقعة حينما يحاصرون، وهنا قد يؤذون ! حقاً ... وذلك ما وجد القاضي نفسه في مواجهته ... وعلى طريق كشفه، كانت روحه هي الثمن ...
جميعهم ولدوا في الشهر نفسه، قد يكونون القتلة، شركاء هذه الجريمة، أو شركاء جرائم كثيرةٍ غيرها، ستدفعهم هذه الجريمة إلى الاعتراف بها ...
كم كانت حياتك صاخبة بالحقيقة أيها القاضي، وكم كانت وفاتك صاخبةً أكثر ... كم كنت تعاني من مرضك ووحدتك وفساد من حولك، وكم كنت تحاول أن تجد لنفسك فسحةً من الأمل في قبتك السماوية ! .... أتساءل كم من الوقت قضيت وأنت تفكر بها، وتهندسها، أتساءل وأجيب نفسي بأنك لذلك طردت ذاك المهندس، لعلك لم ترد لأحد أن يقترب من فهمك، أو ربما لا تريد أن تفسد اللغز بكشف خيوطه أمام عيونٍ لن تبصر حقيقتها ...
جسدك الممدد أمام الطبيب الشرعي، ورحلة الغموض الأخرى التي احتفظت بها في كرياتك الدموية ... لعلك كنت واثقاً بأن الحقيقة ستظهر في تحاليلك ..... في رئتين الجوفاوتين ... ستظهر الحقيقة في قلبك الذي احتمل ما لا تطيقه الجبال، حتى ضاقت به شرايينه، فآثر الرحيل ... تاركاً خلفه رسائل الحقيقة، مفترقاً، لا يكون بعده كما كان قبله، بجسدٍ ممددٍ كشموخ الصقر، يقول:
وأنا أيضاً أعرف من قتلني !

Thursday, February 9, 2017

حامل ! ولكن ...

مرَّ عامٌ على تلك الحادثة، على ما أعتقد ... حيث كنت صباحاً وحيدةً في الصيدلية، أقوم بطلب الأدوية من أحد المستودعات على الهاتف، وتفاجأت باثنتين، يدخلان سريعاً إلى الغرفة الداخلية من الصيدلية!
 تركتُ سماعةَ الهاتف وركضتُ إلى الداخل، فوجدت شابة نحيلةً جداً تجلسُ على أرض الصيدلية شاحبةً جداً (بلون الكهرباء كما يقولون)، وأمُّها تستنجد: ابنتي .. لم تعد قادرةً على الاحتمال ! أعطها إبرة ...
 حاولتُ أن أتمالك أعصابي في تلك اللحظة، أن أغلق على قلبي نبضاته، وأٌعمل عقلي بأقصى طاقته، لإسعاف هذه الحالة دون تأثرٍ نفسي ... هذا الأمر متعبٌ لي للغاية، لكنه أحد واجبات كل من يدخل ضمن السلك الطبي، أن يتصرف ! To take action ...
 فكرت ... إنها تشعر بألم شديدٍ وتشعر بالغثيان .. ماذا أعطيها؟ ... دكلون .. لكن معدتها فارغة وقد تكون حساسة ... ماذا عن الحساسية تجاه الدكلون؟ قد لا تكون الأم بحالة عقلية جيدة لتجيبني على هذا الموضوع بدقة ... حالات التحسس من الدكلون قليلة، لكنها قد تكون ببعض حالاتها مميتة لا سمح الله ! ليس علي المخاطرة ...
 أعطيتها دواءً للغثيان، تأخذه، حتى إذا ارتاحت تتناول شيئاً من الطعام لتأخذ مسكناً قوياً ... وطلبت من الأم أن تأخذ ابنتها الشابة إلى المشفى مالم تشعر بتحسنها ...
 خرجت الأم وابنتُها تستند إليها، وبقيت أفكر بهذه الشابة، ما بها؟ ... ما سبب كل ذلك؟ ... وعدت لأكمل عملي ... آه .. صحيح .. الهاتف!
 عادت الأم بعد نصف ساعة، لتطمئنني على ابنتها، فقد أعادتها للبيت ويبدو أنها تحسنت ... فسألتها: ما سبب ذلك؟ هل هي المرة الأولى؟ ... فأجابت: لقد كانت تتوقع أن تكون حاملاً، لكن لم يحدث ذلك ! يبدو أن ذلك من أثر الحزن الشديد ...
- آه ابنتك متزوجة! تبدو صغيرة
- نعم، من ستة أشهر، ولم تحمل حتى الآن! تخيلي
- كم عمرها؟
- تسعة عشر عاماً
- لا تزال صغيرة ! والعمر أمامها طويل ... بعضهن لا يحملن في مثل هذا العمر
 - نعم، لقد قلت لها ذلك، لكن، تعرفين ! "بيت الاحما" لا يرحمون ! وحماتها تتذمر لأن ابنتي قد تأخر حملها .. لا أدري ما الذي قد يخطر ببالها لو تأخر أكثر !!
 - لكن ! ..... اسمعيني .. من أجل ابنتك، عليها ألا تقلق، وهذا رزقٌ من الله، والحالة النفسية قد تؤثر سلباً على ذلك، ثم ... لا تزال صغيرة ...
- نعم، ولكن ....
كان يبدو أن النقاش بلا فائدة ... لا يمكن لتلك العقد المنتشرة بين الناس أن تُحلّ بكلمتين ...
 مرت الشهور، وجاءت الأم تشتري لابنتها اختبار حمل، وعدتني بـ "حلوان" إن كانت حامل ... وفعلاً عادت بـ "الحلوان" ..... فرحتُ لذلك حقاً ...
 كانت الأم تأتي كل فترة بالوصفة الطبية التي تطمئنني عن استمرار حمل ابنتها ... أدوية الحامل .. الفيتامينات ... وغيرها ...
لكن الله جل بحكمته لم يأذن لهذا الحمل بأن يتم، فقد مات الجنين بالشهر الثاني، واضطرت لإسقاطه ...
 لم تترك الأم بعد ذلك طبيبةً إلا وذهبت إليها .. تريد دواءً لابنتها، تريد أن يجبر خاطر ابنتها بطفل، وجواب الطبيبات نفسه ! ابنتكِ بصحة جيدة، ولا تحتاج أي دواء ... ولكن .. لو لم تحمل، حماتها ...... لا يجب أن تقلق فالقلق قد يؤخر الحمل أكثر ...
مرت الأم علي قبل أسبوعين، تحمل وصفةً طبيةً جديدة!
- هل هناك حمل؟
- لم يتبين بعد، لكن الطبيبة طلبت منها أن تبدأ بفيتامين الحمل من الآن ...
 تلك السعادة التي وجدتها على وجه الأم، انقلبت فجأة إلى تجاعيد حزنٍ وخوف مع الوصفة الطبية التي بعدها ... فقد تعرضت ابنتها لحالة "حمل خارج الرحم" ... حالة خطرة جداً على حياة الأم ... نزفت ابنتها بشدة، وتعرضت لألمٍ لا حدود له، واضطروا للبحث لها عن أكياس دم لإنقاذ حياتها ... ومنعتها الطبيبة من الحمل لستة أشهر قادمة حتى يستعيد جسمها عافيته وقوته ...
شعرتُ بغصةٍ كبيرة ... حزنٍ كبير ...
تقول الابنة للأم: لقد شعرت بألم الولادة مرتين، لكن دون ولد !
وتبادلنا الصمت والحزن ...
لا يمكن لحادثةٍ كهذه أن تمرّ عليك، دون أن تثير بأعماقك كماً من الأفكار والمشاعر لا حدود له ...
شابةٌ صغيرةٌ ضعيفة، تعرضت لكل هذه الآلام وهي لم تتجاوز العشرين ربيعاً ...
مشاعر الأمومة التي تنتظرها، ولم تحصل عليها حتى الآن .....
كم تشتاق لحضن ولدٍ لها، وكم من الأمهات لا يشعرن بهذه النعمة ...
لقطاتٌ متناقضة، مررت بها خلال عامٍ ونصفٍ قضيتها هنا ...
 شاهدتُ فيها الأمهات يشترين جهاز اختبار الحمل، يشترين الفيتامينات، يأخذن حقنة "دكسون" قبل الولادة، ثم تبدأ رحلة حليب الأطفال والحفاضات وقطارات "تمبرا"، وصولاً إلى السيريلاك ...
 شاهدتُ خطوط سيرٍ أخرى إلى جانبها، أمٌّ تريد شراء دواءٍ للإسقاط، وأخرى تريد دواءً لينام طفلها عشرين ساعة متواصلة ...
شاهدتُ أماً تصفع ابنها ذي السنتين على وجهه بقوة، لأنه يطلب شراء السكاكر!
 شاهدتُ أماً تضرب بأظافرها الحادة وجه ابنتها ذات الأربعة أعوام، لأن لديها مرض تبولٍ لا إرادي، معروفٍ أنه يتفاقم بالضرب والحالة النفسية السيئة !!!
 صرفت وصفاتٍ طبيةً لأمهاتٍ وآباءٍ يرغبون بطفلٍ يملأ زوايا حياتهم ... أعطيت كثيراً من الحقن التي يصفها الأطباء لتساعد على الحمل، كنت أدعو لهن من قلبي، ولا أدري إن كتب الله لهن الإنجاب، أم أن مسيرة هذه الحقن تستمر ...
 شاهدتُ في هذا العالم، كثيراً من الحب، وكثيراً من الكره أيضاً ... شاهدتُ الجهل وشاهدتُ الأمل وشاهدتُ الرضى ...
 وشاهدتُ اليوم شابةً ينكسر قلبها، على رزقٍ تأخر عنها، وحاصرتها الضغوط النفسية ممن حولها، لتوصلها لحالةٍ كادت تودي بحياتها ...
أسأل الله الفرج، وجبران الخاطر، والرضى ....

Friday, February 3, 2017

رحلة مع المعاملات !

أجهز نفسي منذ أسبوع وما أحتاجه من أوراق، لقضاء يوم عطلتي العزيز في إنجاز بعض المعاملات، برفقة كثيرٍ من الطوابع التي أعرفها ولا أعرفها، مع علبة الصمغ (سلاحي السري في عملية إلصاق الطوابع😂) ! وقلم أزرق (يكتب😛)، وقائمة الأوراق المطلوبة التي أكرر قراءتها في أوقات الفراغ !
 حاولت أن أبدأ نهاري بإيجابية، قضيت بعض الأمور ثم مررتُ على صديقتي في عملها، قضيتُ معها وقتاً قصيراً جداً لكن فيه من المحبة والطاقة الكثير ! وتابعت رحلتي الطويلة بنشاطٍ رغم كل المفاجآت التي كانت تتوالى وتعيق إتمام عملي ... 
 أمور غير متوقعة، تأكل من رصيد الوقت، رصيدِك الأهم في مسابقة دوام الموظفين، والسلالم الصاعدة النازلة ...
 أثناء انتظاري لبعض الأوراق المتعطلة، وجدت نفسي أمام خيارين .. أن أفسح المجال أمام تدفق هرمون التوتر ليتفاعل مع ذرات قلبي تفاعلاً ناشراً للحرارة، يؤدي إلى حالة تسمى "فوران القلب" غير ذات جدوى ... أو أن أسترخي وأحاول الاستمتاع بالوقت مهما بدى عصيباً ومربكاً ...
 كان أمامي دقائقٌ طويلةٌ من الانتظار، بسبب بعض التعقيدات غير المتوقعة، فكرت بطريقةٍ لإمضائها، فقادتني قدماي إلى إحدى الحدائق التي لم يسبق لي دخولها .. بدأت أتجول فيها وأسترخي في خضرتها ... مارست شغفي بالتقاط بعض الصور بالكاميرا، والكثير منها بقلبي ومخيلتي ...
 تناولت الطعام مع شقيقي بعد تعبنا غير ذي الجدوى، فشعرنا بالعطش الشديد، وكانت زجاجة الماء قد فرغت في مشوارنا الطويل، خطر ببالي أن يكون في الحديقة صنبور مياه للشرب، بدأت أبحث في الزوايا، فلم أجد، سألت البستانيّ فدخل وأحضر زجاجة ماء كبيرة، وملأ لي زجاجتي الصغيرة ... ملأها حتى "آخر شفة" .. شكرته، وابتسم قلبي للموقف ولما في الحياة من خير .. وكان الماء بارداً عذباً، تقاسمته مع شقيقي، وكان من أعذب ما شربناه على عطشنا الشديد ...
 سمعت صوت الأذان يصدح عالياً، فقررت الذهاب للمسجد .. كان باب النساء مقفلاً، بدأت أبحث عن بابٍ آخر مخصص للنساء فلم أجد، سألت إحدى السيدات فصادف أنها أيضاً تقصد المسجد، فدخلنا سوياً من باب الرجال، اخترنا زاويةً في الخلف، وجلسنا ننتظر إقامة الصلاة ...
 كان التصميم الداخلي للمسجد غايةً في الروعة والفخامة، وكان شعاع الشمس الذي يمر عبر النوافذ يرسم نقشاً من الألوان آسراً للقلوب ... شعاع الشمس يقترب من الثريا، فينعكس عليها كماسةٍ نفيسةٍ معلقة في السماء ...
 كان الرجال في الأمام يدخلون تباعاً، يتجهزون لتلك الوقفة الجماعية بين يدي الله، يدخل أحدهم ببطء والآخر مستعجلاً، يدخل العجوز على عكازته، والصبي راكضاً ... بانتظار موعدٍ روحانيٍ جماعي ... صلينا مع الجماعة، وشعرتُ بقلبي يحلق مع أنها صلاةٌ سريةٌ لا يُقرأ فيها القرآن بصوتٍ عالٍ ... بدأت أتأمل كم مر عليّ من الوقت وأنا لا أستشعر بالصلاة، وجُلُّ اهتمامي هو قضاء الصلاة بوقتها أثناء عملي ومشاغلي اليومية ... أربعُ ركعاتٍ أنهيها بسرعة، لأعود للعمل بسرعة، كم مر علي من الوقت دون أن أشعر بها؟ .....
 هممت بالخروج من المسجد، ألقيت السلام على السيدة التي كانت بجانبي، فبادلتني السلام، وأردفت بكلمة "ادعيلنا" .. أجبتها بمثل ذلك ... وراح بالي يجول في آفاقٍ واسعة ... فكرتُ في هذا القدر الذي جمعني مع سيدةٍ لا أعرفها ولا تعرفني، في مسجدٍ لم أدخله من قبل ولا أدري إن كنت سأدخله مرةً أخرى في حياتي، لتجمعَنا صلاةٌ ندعو فيها رباً جمعنا الإيمان به، ونتبادلَ دعاءً بظهر الغيب، ونفترق دون لقاءٍ آخر متوقع في هذه الدنيا ...
 كنت أعقد ربطةَ حذائي حينما عادت ذاكرتي خمسةَ عشرَ عاماً، حيث كنا في رحلةٍ مدرسيةٍ، وهممنا بالعودة، فعلمتنا الآنسة أن نقول: (اللهم إني أستودعك في هذا المكان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنا قد رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، فردها إليّ عند حاجتي إليها) ...
 إننا نمر بأماكن لا ندري إن كنا سنمر فيها مرة أخرى، فلنترك فيها بصمةً لحياتنا، أثراً سيبقى لنا، ويشفع لنا بإذن الله ...
 لم أستطع إكمال عملي بالأوراق، وتعقدت الأمور، وانتهى رصيد الوقت، لكنني في ذلك الوقت، وجدت لنفسي مساحةً أرتاح بها ...
 لم أنجز عملاً مهماً، لكني بالمقابل أنجزت استراحةً مهمةً جداً ... ذكرتُ بعض تفاصيلها، واحتفظت بالباقي في قلبي ذكرياتٍ لا تنسى، مع أولئك الذين أحبهم ...
 وكأن الأمور تجري بطريقةٍ ما، لم تحسب حسابها، لتفتحَ لك نافذة الحياة والراحة التي طالما غابت عنك، ونسيتَ مع طول الغياب كم أنت بحاجةٍ إليها ... ... 
إن لنفسِكَ عليكَ حقاً .. (أيضاً :) ) .. فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ...