Pages

Saturday, January 21, 2017

ضمير !

استمر هاتف الصيدلية بالرنين، ومن حولي أربعة زبائن، ومندوب أحد المستودعات ينتظر ... صوت الرنين يصيبني بالتوتر، ألقيت نظرة على شاشة الكاشف التي لا تعمل إلا بالكهرباء - التي نادراً ما تأتي! - فلم يكن أمامي إلا الرد على المتصل الذي لا أعرفه، قد يكون مضطراً، قد تكون مديرتي بالعمل، قد يكون مستودعاً مهماً، وقد يكون أحد الزبائن ذوي الاستشارات الهاتفية المهمة أو غير المهمة !
 "يسعدلي صباحك حبيبتي" ... هذه الجملة مع هذا الصوت، هو آخر شيءٍ أتمناه ومن حولي كل هذا الازدحام في العمل !
إحدى جاراتنا في الصيدلية، لديها عادةٌ تتكرر بمعدل مرةٍ كل أسبوعين، تتصل وتسأل أسئلة تعرف أجوبتها ... 
 لم يكن من طبعي أن أرد سؤالاً، فقد منحني الله بالاً أطول مما أتوقع أنا نفسي ! فكنت في كل مرة أداريها وأساير حتى أوصل لها المعلومة بأقل عددٍ ممكن من الكلمات وبأسرع وقتٍ ممكن ...
في هذه المرة، كانت تريد أن تقنعني بأن دواء الضغط Lotid ليس كـ Losartic، وبأنها ذهبت إلى الإسعاف بسبب البديل بعد أن قرأت تأثيراته الجانبية ...
 أثناء استماعي لحديثها على الهاتف، صرخت إحدى الزبائن عندي: "لماذا تردين على الهاتف؟ ربما كان أحد ما مستعجلاً" ... 
 كان أسلوبها غايةً في الوقاحة، لكنها محقةٌ إلى حدٍ ما، وفي النهاية لست أخطبوطاً؛ حتى أتمكن من تدبير كل شؤون الصيدلية بعقل واحد ويدين اثنتين ... أجبتها باحترام: لو اتصلتِ بالصيدلية ولم أرد عليكِ، ألن تنزعجي؟ ... "لكنها لا تسأل عن شيءٍ مهم ولن تشتري منك شيئاً!" ... وكيف لي أن أتنبأ بذلك؟! إنه "المندل" ... ربما!
 أنهيت مكالمتي سريعاً، وأنا أكظم غيظي لأبعد الحدود، كنت أريد أن أصرخ بوجهها أنني أعرف عملي وليس لها التدخل به! وكنت أيضاً أود لو أن هناك زراً لحظر مكالمات تلك الزبونة بالذات التي تهدر وقتي في كل مرة، بإقناعي أن حقن الدكلون لا تسبب ألماً في المعدة أو ارتفاعاً في الضغط، بينما تسبب حقن الدكلوفيناك - بديلها - ذلك!
 يحتاج صيدلاني المجتمع، أن يمتلك مهاراتٍ اجتماعيةً عالية، حلماً وبالاً طويلاً، وشخصيةً غير لئيمةٍ لكنها لا تسكت على تجاوزات المرضى ... الشعرة في هذا المجال رفيعةٌ جداً وعلي الحفاظ عليها ...
 التفتُّ إلى تلك الزبونة الوقحة، ومعالم انزعاجي منها لا تختبئ من وجهي الواضح ولا تخفى على أحد ... والغريب في الأمر أن استعجالها تحول فجأةً إلى سيلٍ من الجدال لا ينتهي ... إنها تأتي بالأدوية من المستوصف مجاناً، ومن ثم تناقش لنشتريها منها بحجةٍ أنها أخذت الدواء من عندنا ولم تستعمله، ومن ثم تتابع الجدال لنأخذ الدواء منها بالسعر الذي نبيعه به ! 
خرجت الزبونة، وتلفت الزبائن إلى بعضهم يتبادلون تلك النظرة الصامتة ... "الله يفرج أحسن شي" ....
 لا نستطيع إطلاق الأحكام على الأشخاص من حولنا، فنحن لا نعرف ظروفهم، ولا ندري كيف سنتصرف لو مررنا بظروفٍ مثلها ... نسأل الله العافية والسلامة، ونحاول أن نوفِّق بين ثلاثة ضمائر:
ضميرٍ إنسانيٍّ متعاطفٌ مع الزبون ..
ضميرٍ لا يجب أن يُستَغلَّ أو يُضحك عليه ..
 وضميرٍ يريد أداء عمله كموظفٍ على أكمل وجه ...

Friday, January 13, 2017

الرجل الأعمى

وجدت صباح أمس في طريقي إلى العمل رجلاً أعمى يمشي قرب الصيدلية ... كأول انطباعٍ لي حين رأيته يتلمس الأرض بعصاه، فكرت في مساعدته، لكنني ترددت لما في وعيي من تحذيراتٍ تجاه الغرباء، تمنعني من إعطاء الثقة لأيٍ كان مهما بدا عليه ...
 أثناء مروري بمحاذاته، لأفتح باب الصيدلية، أوقفني وسألني: أين شارع بغداد؟ بشكل طبيعي أجبته، وأنا أتفكر في حاسة السمع التي ميز من خلالها وقع أقدامي وناداني بـ "أختي" دون أن يراني!
أخرج الرجل لي قصاصة من كرتون سميك، كتب عليها:
<<<دكتور ورد الشام
نواحي شارع بغداد
 جمعية ........ (حروف غريبة غير مفهومة!)>>>
سألني أين أجد هذا العنوان، فلم يتضح لي، ودللته على الجمعية الخيرية القريبة من الصيدلية، فأخبرني أنه كان فيها وليست هي ما يريده.
 بدأ حس التحري يراودني، واستحضرت في ذهني كل الشيفرات التي حلها المحقق كونان، هل هي شيفرة غامضة؟ ما معنى كلمة دكتور ورد الشام؟ ما هي الكلمات الغريبة المكتوبة إلى جانب كلمة جمعية؟ بأي لغة هي؟
 لم يكن الرجل يعرف اسم الجمعية التي يريد الذهاب إليها، يسير في الطريق أعمى البصر، نحو وجهةٍ عمياء ... ويبحث في الطريق عمن يجد له هذا العنوان الغريب ...
سألني: ألا يوجد صيدلية هنا؟ ربما تستطيع تفسير هذا الخط، كون التي كتبته دكتورة! ارتبكت للحظة ثم أجبته: أنا صيدلانية! وبدأ دماغي يعمل بأقصى طاقته متذكراً كل شيفرات الأطباء التي فككتها من قبل! لكن دون جدوى ... فعادةً حينما تفسر وصفة طبيب، فإنك تكوِّن في مخيلتك أبجديةً خاصةً بالطبيب، وبناءً عليها تفك الخط، أما هنا فكل الكلمات مفهومة، والخط خط سيدةٍ مرتبٌ إلى حدٍ ما عدا الكلمات الأخيرة، فمحالٌ أن يكون شخصٌ واحد قد كتب كل ذلك إلا متعمداً ألا يقرأه أحد ...
سألني: ألا يوجد في المنطقة دكتورة اسمها ورد الشام؟ إنها هي تريد مساعدتي ... وكان من المحبط له أني لم أسمع بها من قبل ... وبدأت أحادث نفسي .. "ورد الشام" ! هل نحن بين جدران الفيس بوك الزرقاء حتى نبحث عن شخصياتٍ بأسماء كهذه؟
 سألته: هل لديك رقم هاتف أتصل عليه لأسأل لك؟ قال: لا، ولكن سأتصل بزوجتي لتخبرك باسم الجمعية، ربما تعرفها!
أمسك جواله ذا الطراز القديم، وضعه على أذنه، وراح يضغط أزرار الهاتف فيصدر نغماتٍ وفق الأرقام! وبدا لي أن الرجل يتصل بالرقم الذي يريده وفق ذاكرته السماعية لنغمات المفاتيح ... كما يفعل المحقق كونان بإحدى الحلقات ...
لم يفلح بالاتصال لأنه لا يملك رصيداً، وسألني إن كان يستطيع استخدام هاتفي ...
 كان قلبي المتعاطف مع الرجل الكبير، يتنازع مع عقلي الذي جعلته خبرته في النفوس الملتوية يتوقع كل شيء سيء! وبدأت أسأل نفسي: ماذا لو لم يكن أعمى وافتعل كل ذلك ليستخدم هاتفاً جوالاً فيسرقه ويركض به؟! لا شيء مؤكد ...
 طلبت منه أن ينتظر حتى أفتح باب الصيدلية، ومن ثم يتحدث من الهاتف الأرضي، ثم ساعدته في الدخول ونزول الدرجات الثلاث ... أعطيته الهاتف، فطلب مني الاتصال برقم يحفظه، لكن الرقم كان مغلقاً أو خارج نطاق التغطية !
- يا عم ما الذي أستطيع مساعدتك به؟ هل تقصد الجمعية لغرضٍ ما؟ ومن هي الدكتورة ورد الشام؟
 - لقد نزحت مع عائلتي من القنيطرة الأسبوع الماضي، ولا مكان نأوي إليه، فتعرفت على دكتورة اسمها ورد الشام، وأعطتني عنوان جمعية أذهب إليها لتساعدني، فهي إحدى المتبرعين الدائمين لهذه الجمعية، وعدتني أنهم سيساعدونني لو أريتهم هذه الورقة!
 - وما الذي يضمن أنها صادقة؟ ربما كانت تمزح مثلاً! فلا يوجد دكتورة اسمها ورد الشام! ثم لمَ لمْ تُعطك بطاقتها أو ورقةً مرتبةً منها؟ لماذا تكتب لك العنوان على كرتونٍ سميك؟ ولماذا لم توضح خطها في كتابة اسم الجمعية؟
- لقد كنا قرب سوق الخضراوات ولم يكن معها ورقة ...
- لا أدري يا عم ماذا أقول لك، فربما تكون هذه القصة كلها غير صحيحة!
 - ما الذي يجعلها تكذب علي؟ لقد أحبت من نفسها أن تساعدني!
لم أعرف ماذا أجيبه، كيف يمكن لشخصٍ أن يتصرف بهذا الشكل مع شخصٍ مسكينٍ أعمى .. ما الذي كان يفكر به وهو يعطي رجلاً لا يبصر، ورقة فيها عنوانٌ لا وجود له؟!
 دللته على الطريق ليصل إلى شارع بغداد الرئيسي، فمشى في طريقه ممسكاً تلك الورقة، يسأل كل من يمر به، لعله يجد جواباً لشيفرتها!
 ذهب وفي عقلي ألف سؤال بلا جواب ... راودني الشك تجاه كل شيء، تجاه كل الناس، وتجاه هذا الأعمى وقصته الغريبة، وقصة نزوحه من القنيطرة التي لم أسمع اسمها في الأخبار من زمنٍ طويل، وسؤالٌ أخير بريء يقول لي: مابالك يا وطني، لا تحبُّ بعضك؟ هل سأثق بك يوماً؟

Tuesday, January 10, 2017

أربع وعشرون عاماً

عينان ذابلتان على الوسادة، في نهاية يوم طويلٍ جميل ... يومٍ يحمل بين تفاصيله معاني عميقة جداً ... 
 أربعٌ وعشرون عاماً، وأنا في هذا العالم، ... أعيش وأتعلم من خبراته ... أستكشف عوالم جديدة بداخله ... وأستكشف قاراتٍ جديدةٍ بداخل نفسي ... وأكتشف حولي كثيراً من الأشخاص الرائعين لم يسمح ازدحام الحياة لي بأن أجتمع بهم من قبل ...
شكراً لكل من كان ابتسامةً على طريق رحلتي ... 
 وشكراً قبل كل ذلك، إلى ذلك القلب الذي كان قبل أربع وعشرين عاماً يصرخ وجعاً وحباً بانتظاري ... وعسى أن أكون خير قرة عينٍ لهم :) 
بتول 10-1--2017

Sunday, January 1, 2017

عودةٌ إلى الكتابة، بعد 600 يوم

استيقظت فجر أمس، آخرِ يوم في هذا العام، وبين جفني شيءٌ من بقايا حزنٍ وهمٍّ علق من ضغوط الأيام الماضية ... شعرت ببرودٍ في قلبي ... يحمل همَّه بصمتٍ ويسير معه نحو السرير على غير العادة! غفوت في الوقت الذهبي قبل انطلاقي للعمل، هرباً من عقلي الباطن الذي لا أفهم عليه ...
 كان أمامي يومٌ شاقٌ بعد العطلة، انتظرت دقيقةً من الهدوء في الدوام لأخرج وأحضر شيئاً آكله، لم أجد البائع في دكانه، ولكني وجدتُ مجموعة من العصافير قرب الباب، تزقزق وترقص وتتقاسم قطعة خبز مرمية ... كانت تتفرق خلال ثانيتين، ثم تعود في أقل من ذلك ...
 دخلت عليّ امرأةٌ مع طفلةٍ في الخامسة، وكعادتي مع الأطفال، أبادلهم ابتسامةً صامتة، ثم أسألهم، ما اسمك؟ وفي أي صف؟ ... كانت سنا سعيدةً جداً وهي تحدثني أنها سترداد المدرسة العام القادم ... وانشغلت عنها بعملي، وقفت في القسم الخارجي من الصيدلية أحضر لإحداهن ما تريده، فشعرت بشيءٍ يلمس ساقي من الخلف، أدرت وجهي فإذا بسنا ترفع رأسها بمحبةٍ وتقول لي "عندك سكاكر على توت؟" ... فرفرف قلبي معها، وأنهيت عملي وبحثت لها بين علب سكاكر الأطفال عن ذلك، لألبيَ ابتسامتها ...
 كان كوب الليمون الساخن الذي أعدته رفيقتي في العمل، يحمل كثيراً من هدوء الأعصاب، تجاه ما كان واضحاً كالعادة على وجهي من عدم الارتياح ...
 وكانت رفيقة طريق العودة، قطةٌ صغيرة، تبِعَتْني من أول الشارع، كانت تركض وهي تتبع ظلي، حتى إذا وصلنا بنايات الجيران تنسل إلى المدخل، فتجدني أكملت الطريق فتعود وتركض بجانبي، حتى وصلت بنايتنا، فاختفت تحت إحدى السيارات المركونة، وتركتني في حالةٍ من المحبة تجاه ما خلقه الله عز وجلّ من جمالٍ حولنا ...
 مر وقتٌ طويلٌ لم أدوِّن عنه شيئاً، لكن صباحاً من الحزن، كشف أمام قلبي جوانب من السعادة أعادت لقلمي مداده، هذه المرة كان جبرُ الخاطرِ من العصافير والقطة والطفلة والليمون الساخن !